صورة مقتل الصبي محمد الدرة تقدم نموذجا لـ"محرقة" فلسطينية وتخدش "محرقة" النازية و"حياء" الإعلام العربي الذي يمتع جمهوره بوصلات الرقص الشرقي قدس برس يبدو أن صورة الصبي محمد الدرة البالغ من العمر 12 عاما, والذي قتله جيش الاحتلال الإسرائيلي, في الوقت الذي كان هو وأبوه يحاولان اجتناب الرصاص الإسرائيلي الباحث عن أجساد العرب لتمزيقها, ستكون من بين أبرز الأشياء التي ستبقى طويلا في ذاكرة الرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي والدولي.. فالصورة صارخة جدا, وتكشف أن الإسرائيليين لا يصوبون رشاشاتهم لمن يرميهم ببعض الأحجار من أطفال فلسطين وشبابها, وإنما, ومن دون كثير اكتراث, يطلقون النار أيضا, حتى على من لا يملك حجرا في يديه, يلقيه على جنود الاحتلال, بل على طفل صغير يحاول أن يحمي نفسه من رصاصهم بالاختباء خلف ظهر أبيه ووراء جدار. وحين سئل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في مؤتمر صحفي قصير هل شاهد هو شخصيا تلك الصورة التي انتشرت في مختلف أرجاء الأرض, قال نعم, وأضاف أنه ظل يتساءل ما الذي كان بوسع الأب أن يفعله من أجل حماية ابنه, وقال: "إنني كنت أشاهد الشريط كما لو كان الرجل شخصا أعرفه". لكن "الراعي" الأمريكي لم يشأ أن توجه الإدانة في مقتل الصبي محمد بشكل حاسم وواضح لقوات الاحتلال, التي تسببت في مصرعه, فاستدرك يقول" لقد كان مشهدا يكسر القلب أن ترى طفلا مثل ذاك, وقد وقع ضحية لتبادل إطلاق النيران". وهنا حرص الرئيس كلينتون على أن يوزع المسؤولية بين الأطراف, فمقتل الصبي محمد كان فقط لوجوده في منطقة لتبادل إطلاق للنار, وهو ما قد يعني أنه يتحمل نتيجة ما حدث له بوضع نفسه في منطقة تبادل إطلاق نار, أو أن قتله في أحسن الحالات مسؤولية مشتركة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وفي تذكير للطرف الفلسطيني وتحذير واضح له, يرجو كلينتون أن يكون ما حصل من قتل للعشرات من الفلسطينيين وجرح للآلاف منهم, "مذكرا واقعيا بما يمكن أن يكون عليه البديل عن السلام". متمنيا أن تؤدي الأمور إلى "فهم ما حصل من أخطاء, ورؤية السبيل, الذي يستطيع من خلاله الجانبان, ضمان أن لا يعيش الشعبان الاسرائيلي والفلسطيني ثانية الأحداث الفظيعة للأيام القليلة الماضية".. ومجددا, وبعد توزيع المسؤولية على مقتل الصبي محمد بين الفلسطينيين والإسرائيليين, يتم أيضا توزيع الآلام والمعاناة على الطرفين, لأنه لا يعقل أن يحتكر الفلسطينيون صفة الضحية, فاليهود هم دائما, ومنذ "المحرقة" وقبلها وبعدها, وإلى الأبد, ضحايا العدوان, النازي سابقا, والفلسطيني والعربي حاليا. صورة الصبي محمد الدرة والرصاص الإسرائيلي يمزق كيانه, وصورة أبيه العاجز عن فعل أي شيء, وفلذة كبده يموت بين يديه, عرت بشكل كبير دعاوى سلطات الاحتلال, وصورت الواقع على حقيقته: جنود مدججون بالسلاح يوزعون الموت يمينا وشمالا ببنادقهم الغليظة, لا يرحمون الأطفال ولا يوفرون من يحاول إبعاد نفسه عن شرهم. وبالرغم من دفاع كلينتون, أو محاولات الإسرائيليين أنفسهم التملص من المسؤولية, فإن وقع تلك الصورة لا يمكن محوه أو التقليل من آثاره. والإسرائيليون يدركون خطورة الإعلام جيدا, وتأثيره على الرأي العام, ولذلك فقد كانت المواجهات فرصة لتسديد قناصتهم الرصاص صوب الصحفيين الفلسطينيين, ربما للتقليص من عددهم قدر الإمكان بالقتل, أو ترهيبهم فلا يقتربون مجددا من مسرح عمليات جيش الاحتلال ضد أبناء شعبهم, أو إصابتهم إصابات بالغة تحرمهم من القدرة على مثل تلك الأعمال في المستقبل.. ولقد كان واضحا منذ البداية أن هناك سياسة إسرائيلية في هذا الاتجاه, فمنذ اليوم الثاني لانتفاضة الأقصى, كانت الإصابات في صفوف الصحفيين الفلسطينيين كبيرة, ونسبتها عالية جدا إذا ما قورنت بنسبة الإصابات في أوساط الجمهور الفلسطيني. فالإسرائيليون يحرصون على أن تكون صورة احتلالهم مشرقة وضاءة لدى الرأي العام, أو على الأقل أن لا تكون بشعة, وأن يكونوا هم دائما في عيون الناس ضحايا "البربرية" الفلسطينية والعربية, ولا يهم بعد ذلك كيف ينظر الفلسطينيون إلى ذلك الاحتلال, فليس من المهم كثيرا أن يرضى الفلسطينيون بواقع الاحتلال, وإنما المهم أن تضمن الآلة العسكرية الإسرائيلية قدرة متجددة على إخضاع الفلسطينيين والعرب وترهيبهم, ولكن بشرط أن يتم ذلك الإخضاع في العتمة وبعيدا عن أعين الناس, حتى يبقى وجه الاحتلال مشرقا غير ملوث بالدم, وحتى يبقى احتكار المحرقة ثابتا إسرائيليا لا يتزعزع, وتظل المأساة صناعة إسرائيلية ويهودية لا تنافس. الإسرائيليون الذين يحرصون في كل مكان على تشييد متاحف للمحرقة النازية, ويوظفون كل قواهم لإبقاء تلك المحرقة فوق النقد وفوق المساءلة التاريخية والعلمية, وينظمون محاكمات ضمير لكل باحث أو مؤرخ شكك في عدد الضحايا وحقيقة المحرقة, يحرصون جيدا على أن لا يكون للفلسطينيين محرقتهم هم أيضا. وبالرغم من أن "المحرقة اليهودية" قد مضى عليها أكثر من نصف قرن, وأن المحرقة الفلسطينية تعاد فصولها كل يوم وكل ساعة خلال نصف القرن الماضي, فلا بد من العمل باستمرار على إحياء جذوة "المحرقة اليهودية" والنفخ في رمادها, ولا بد في المقابل من العمل المستمر والدؤوب على التعتيم على المحرقة الفلسطينية, وحجبها عن الأنظار, أو تشويه حقيقتها والتشويش عليها, وذلك بالرغم من أن نارها مشتعلة منذ أكثر من خمسين عاما وضحاياها يسقطون كل حين. وصورة الصبي محمد الدرة والرصاص الإسرائيلي يمزق جسده, التي التقطتها عدسة مصور فلسطيني بارع, فانتشرت في العالم, كما تنتشر النار في الهشيم, تخدش بحدة الصورة النمطية عن الإسرائيليين باعتبارهم "ضحايا", وعن العرب باعتبارهم "همج" معتدون قتلة سفاحو دماء.
وهي أيضا وبالقدر نفسه تخدش "حياء" الإعلام العربي, وتقدم له درسا بليغا في ما يجب أن يكون عليه عمله, وهو الذي أضحى يتناول قضايا الصراع العربي الإسرائيلي, وكأنه إعلام ياباني أو مكسيكي أو بولوني, يدعو من مكان سحيق طرفي النزاع إلى ضبط النفس, والتحلي باليقظة من أجل وقف العنف المتبادل. كما تقدم أيضا لتلك التلفزيونات والفضائيات العربية, التي تنفق الملايين الطائلة, وتحرص جيدا على إمتاع جمهورها وإسهاره على وصلات متتابعة من الرقص الشرقي والطرب العربي الأصيل وغير الأصيل, في وقت يرقص فيه الصبي محمد الدرة وأمثاله من أطفال فلسطين وشبابها رقصة الموت على أنغام لعلعة الرصاص الإسرائيلي.
|